فصل: مطلب الخصومة يوم القيامة وضمير صدق به ومراتب التقوى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هذا وقد يكون من هؤلاء السادة من لا ناصر له إلا اللّه وقد حذر حضرة الرسول من ظلم من لا ناصر له، وروي عنه أنه قال: اشتد غضب اللّه على من ظلم من لا يجد ناصرا غير اللّه، وروى الطبراني في الكبير والضياء في المختار وابن أبي عاصم والخرائطي في مساوئ الأخلاق أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام يقول اللّه وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين {ذلِكَ} الحديث الحسن هو {هُدَى اللَّهِ} وقرآنه المنزل على رسوله من اللوح المحفوظ وكلامه الأزلي {يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ} هدايته إلى دينه القويم {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} من قساة القلوب {فَما لَهُ مِنْ هادٍ 23} يهديه البتة، قال تعالى: {أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ} بالأعمال الصالحة التي قدمها في دنياه كمن هو آمن منه كلا ليس سواء لأن غير المتقي ظالم وفي ذلك اليوم يهلك الظالمون بدليل قوله عز قوله {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ} من قبل خزنة جهنم {ذُوقُوا} هذا العذاب جزاء {ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ 24} في الدنيا من الآثام، قال تعالى يا أكمل الرسل لا تحزن على ما ترى من قومك فقد {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} رسلهم كما كذبوك هؤلاء {فَأَتاهُمُ الْعَذابُ} من عندنا بعد إصرارهم على الكفر بغتة {مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} 25 على حين غفلة وساعة غرة من حيث لا يخطر ببالهم وقوعه وفي حالة لا يتوخون بها حدوثه {فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} الذل والهوان {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} وأشد وأعظم {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ 26} ذلك علما يقينا لآمنوا واعتبروا من قبلهم ولما عبدوا ما لا يعقل ولا يبصر ولأخلصوا عبادتهم للإله الواحد ولما مسهم السوء.
قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} يحتاج إليه الناظر في أمور الدنيا والدين {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 27} ولم يتذكروا لأنهم لم يشغلوا حواسهم فيما خلقت لها فطمس اللّه عليها وحرمهم فوائدها وجعل هذا القرآن {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} بلغتك ولغة قومك {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف وأنزله على خير رجل منهم ومن جنسهم {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ 28} الكفر والتكذيب وقدم التذكر في الآية الأولى على التقوى في هذه الآية لأن الإنسان إذا تذكر وعرف الشيء ووقف على فحواه اتقاه واحترز منه واجتنبه، قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ} متنازعون بخدمته يتجاذبونه بينهم لسوء أخلاقهم وقلة آدابهم والشّكس السيء الخلق {وَرَجُلًا} عبدا مملوكا أيضا {سَلَمًا لِرَجُلٍ} خاصا له وحده {هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا} أي لا يستويان في الصفة والحالة، لأن الاستفهام هنا إنكاري لا يجاب إلا بالنفي {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ 29} أن اللّه تعالى وحده هو المستحق للعبادة وهذا مثل ضربه اللّه تعالى للكافر الذي يعبد آلهة متعددة فلا يعلم أيهم يرضى منه وأيهم يسخط والمؤمن الذي يعبد اللّه وحده فهو على بينة من أمره.
وليعلم أن إيراد المثل في القرآن هو للتذكر والاتعاظ به والمراد بضربه لتطبيق حالة عجيبة بأخرى شبهها وجعلها مثلها، وعليه يكون المعنى أن اللّه تعالى يقول لرسوله اضرب لهم هذا المثل واسألهم أي هذين أحسن وأحمد {إِنَّكَ} يا سيد الرسل {مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ 30} نزلت هذه الآية في كفرة قومه صلّى اللّه عليه وسلم الذين كانوا يتربصون موته ليتخلصوا منه قاتلهم اللّه، كيف وهو إنما أرسل رحمة لهم وكان يجهد لنفسه ليخلصهم من عذاب اللّه؟
يقول اللّه تعالى له لا يتمنوا لك يا حبيبي الموت فكلهم ميت ولا شماتة في الموت لأنهم مثلك يموتون كما تموت ولا سواء لأنك تلاقي ربك في جنته وهم يلاقون العذاب بناره والميت بالتشديد والتخفيف من حل به الموت وأنشد أبو عمرو:
تسألني تفسير ميت وميّت ** فدونك قد فسرت إن كنت تعقل

فمن كان ذا روح فذلك ميّت ** وما الميت إلا من إلى القبر يحمل

راجع الآية 9 من سورة فاطر في ج 1 لتستوفي هذا البحث، قال تعالى {ثُمَّ إِنَّكُمْ} أيها الناس بركم وفاجركم {يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ 31}.

.مطلب الخصومة يوم القيامة وضمير صدق به ومراتب التقوى:

لما نزلت هذه الآية قال الزبير يا رسول اللّه أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان منا في الدنيا؟ قال نعم، فقال إن الأمر إذا لشديد.
رواه عبد اللّه بن الزبير وأخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم حنين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا.
وعن إبراهيم قال لما نزلت هذه الآية قالوا كيف نختصم ونحن اخوان فلما قتل عثمان قالوا هذه خصومتنا.
وقال ابن عمر: كنا نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين وقلنا كيف نختصم وديننا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت بأنها فينا نزلت.
وروى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:
من كانت عنده مظلمة لأخيه عن عرض أو مال فليتحلله اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: أتدرون من المفلس؟ قالوا إن المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنبت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذت من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار.
واعلم أن من الناس من يموت فيخلص الناس من شره، ومنهم من يموت فتبكيه الناس أجمع، فاحرص أيها العبد أن تكون الثاني.
قال أبو الحسن الأسدي: مات رجل كان يعول اثني عشر ألف إنسان فلما حمل في النعش على أعناق الرجال حصل له صرير فقال رجل في الجنازة:
وليس صرير النعش ما تسمعونه ** ولكنه أعناق قوم تقصّف

وليس فنيق المك ما تجدونه ** ولكنه ذاك الثناء المخلّف

قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} فأضاف له شريكا فجعل له بنين وبنات {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} الأمر الذي هو الصدق نفسه وهو ما جاء به محمد صلّى اللّه عليه وسلم الصادق المصدوق {إِذْ جاءَهُ} على لسان نبينا وأميننا من لدنا فانتبهوا يا قوم {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ} أمثال هؤلاء بلى فيها منازل كثيرة لهم أجارنا اللّه منهم ومنها {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ} الوحي الحق من عندنا {وَصَدَّقَ بِهِ} آمن بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ومن تبعه مؤمنا وهذا المراد من ضمير به كما هو المراد في قوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الآية 54 من سورة البقرة في ج 3 أي هو وقومه، وهذا التفسير أولى وأنسب بالمقام لأن الأوجه في العربية أن يكون جاء وصدق لفاعل واحد لأن التغاير يستدعي إضمار الذي وهو غير جائز في العربية ويستدعي أيضا إضمار الفاعل من غير تقدم الذكر له وهذا بعيد أيضا في النصيح، وقال بعض المفسرين إن ضمير به يعود إلى أبي بكر رضي اللّه عنه، وعليه يكون المعنى والذي جاء بالصدق يعني محمدا وصدق به يعني أبا بكر كما قال أبو العالية والكلبي وجماعة ويروونه عن علي عليه السلام وقال السدي وجماعة أيضا: إن ضمير به يعود إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم وضمير جاء إلى جبريل عليه السلام.
وقال مجاهد وجماعة: إن ضمير به يعود إلى علي كرم اللّه وجهه وضمير جاء إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
وقال آخرون: إن ضمير جاء يعود إلى محمد وضمير به إلى المؤمنين.
فهذه خمسة أقوال كل منها في المعنى صحيح لكن ما جرينا عليه هو الموافق لسياق الآية واللّه أعلم.
{أُولئِكَ} محمد وأتباعه الذين اقتفوا أثره وماتوا على متابعته {هُمُ الْمُتَّقُونَ 33} العريقون في التقوى، وجاءت هذه الجملة بالجمع مع أن ما قبلها مفرد باعتبار دخول الأتباع تبعا، ولا يخفى أن مراتب التقوى متفاوتة ولحضرة الرسول أعلاها وأوفاها ومن بعده أول من آمن به من الرجال أبو بكر ومن النساء خديجة ومن الصبيان علي ومن الأرقاء يلال ثم الأمثل فالأمثل رضي اللّه عنهم أجمعين، أو أنّ الموصول واقع صفة لموصوف محذوف تقديره الفريق أو الفوج الذي جاء بالصدق وصدق به فيكون مفرد اللفظ مجموع المعنى، أو أن اللام في والذي للجنس فيشمل الرسل والمؤمنين اجمع، يؤيد هذا قراءة ابن مسعود {والذين جاؤا بالصدق وصدقوا به} ولكنها قراءة شاذة، إذ لم يتابعه أحد من القراء عليها لما فيها من زيادة الواو، وما قيل إنه قد يستعاض عنها بإشباع الضمة يجوز لو كان الأصل مضموما أما والأصل جاء مفتوحا فلا، وما قيل إن النون محذوفة من الذي والأصل الذين واستشهدوا بقوله:
إن الذي جاءت يفلج دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم مالك

قال أبو حبان ليس بصحيح لوجوب جمع الضمير في الصلة حينئذ كما في البيت ألا ترى أنه إذا حذفت النون من المثنى كان الضمير مثنى أيضا كما قال:
ابني كليب إن عمي اللذا ** قتلا الملوك وفككا الأغلالا

فلو فرض جواز حذف النون أيضا لا يصح كما علمت، وعليه فالأصح هو الذي جرينا عليه على ما هو في المصاحف وقراءة أبي صالح وعكرمة ابن سليمان، وصدق مخففّا أي جاء وصدق به الناس بأنه أداه إليهم كما جاءه، فالضمير والموصول فيها عائدان لحضرة الرسول كما ذكرنا أيضا، وهناك قراءة أخرى {وَصَدَّقَ} على البناء للمفعول مشدّد أي صدقه الناس به وهي أيضا تؤيد ما قلناه، وقد ذكرنا غير مرة أن لا عبرة للقراءة المخالفة لما في المصاحف المدونة من لدن عثمان رضي اللّه عنه حتى الآن وإلى الأبد إن شاء اللّه، فكل قراءة لا يوافق رسمها رسم ما في المصاحف لا عبرة بها البتة أما ما كان موافقا بالحروف ومختلفا بالحركات مثل قراءة {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ} الآية 46 من سورة هود المارة و{خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ} الآية 11 من سورة الحج ج 3 على الفعلية فهما أو المصدرية في الأولى والفعلية في الثانية والحالية والصفة أيضا فلا بأس فيها {لَهُمْ} لهؤلاء الذين مر ذكرهم من الخير والكرامة {ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ} الجزاء الحسن العظيم هو {جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ 34} في أفعالهم وأقوالهم {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} في الدنيا {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ 35} في الآخرة ويتجاوز عن سيئاتهم.
وليعلم أن إضافة أسوأ وأحسن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفصيل كما تقول الأشبح أعدل بني أمية ويوسف أحسن أخوته.
هذا ولما كثر تهديد المشركين لحضرة الرسول وتجاهروا له بالعداء وخاف أصحابه أن يبطشوا به، إذ لم يبق من أقاربه من يقف بأعينهم بعد وفاة أبي طالب وخديجة رحمها اللّه أنزل اللّه جل شأنه ما يثبت به قلوب أصحابه وينفي عنهم ذلك الرجل قوله عز قوله {أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ} محمدا عن الناس أجمع أعداءه وغيرهم وقادر على حفظه من أذاهم بلى وهو القادر على كل شيء، وقرئ {عباده} أي جميع الأنبياء كافة وذلك أن أقوامهم قصدوهم بالسوء أيضا فكفاهم اللّه شرهم وكافأهم بالحسنى، والقراءة هذه جائزة لما علمت أن المد والإشباع جائز، وهذا الاستفهام يجاب ببلى، لأن همزة الاستفهام الإنكاري إذا دخلت على كلمة النفي أفادت الإثبات فيكون حكم الاستفهام فيها تقريريا كما هنا ولا يجاب إلا ببلى وإذا دخلت على الإثبات أفادت النفي، فيكون الاستفهام إنكاري ولا يجاب إلا بلا كما في قوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} الآية 10 من سورة إبراهيم الآتية، ومما يدل على أن الضمير في عبده يعود لحضرة الرسول خاصة دون عباده الآخرين على القراءة الأخرى قوله جل قوله {وَيُخَوِّفُونَكَ} يا سيد الرسل {بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أي الأوثان وذلك لقول الكفرة يا محمد إن لم تكف عن شتم آلهتنا أصابك الخبل والجنون بسببها ولقد ضلوا بقولهم هذا مع ضلالهم {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ 26} يهديه ولا ينفعه الهدى لأنه مكبوب عند اللّه ضال من الأزل {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} أبدا لأنه ثابت في علم اللّه أنه مهتد ولا مبدل لما في علمه {أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ} غالب لا يغالب منيع لا يمانع ولا ينازع {ذِي انْتِقامٍ} من أعدائه ينتصف منهم لأوليائه، وهذا الاستفهام مثل الاستفهام السابق أي بلى هو كذلك، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} يا سيد الرسل أي هؤلاء الذين يخوفونك بأوثانهم وقلت لهم {مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} لظهور الأدلة على ذلك ووضوح البراهين لما تقرر عقلا وجوب انتهاء جميع الممكنات إلى واجب الوجود فإذا أجابوك ولا شك أنهم مجيبون بأن الذي خلقهن هو اللّه وإلا فأجبهم أنت بأنه هو الذي خلقهن وما فيهن فإنهم لا يعارضونك في ذلك {قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من هذه الأوثان {إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ} فيسكتون خشية الكذب لأنه معيب في كل زمان عند كل ملة حتى أن قوم يونس عليه السلام كانوا يقتلون الكذاب، راجع الآية 97 من سورته المارة، ثم قل لهم أيضا {أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ} فيسكتون أيضا لعلمهم أنها لا تكشف ضراء ولا تمسك رحمة ولا تفعل شيئا أبدا {قُلْ} بعد اعترافهم هذا لعجز آلهتهم عن فعل شيء من ذلك بدليل سكوتهم الذي هو بمثابة الإقرار {حَسْبِيَ اللَّهُ} هو كافيني منهم ومن أوثانكم وبالنصر والظفر عليكم كما وعدني به، عليه وحده توكلت و{عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} لا على غيره فقد خاب وخسر من توكل على غيره، ثم أشار إلى تهديدهم فقال: {قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ} حالتكم التي تتمكنون عليها من عدواني وتكذبي والمكانة بمعنى المكان واستعيرت عن العين للمعنى كما استعير هنا وحيث للزمان مع أنها للمكان {إِنِّي عامِلٌ} على مكانتي أيضا حذف من الثاني بدلالة الأول كما يحذف أحيانا من الأول بدلالة الثاني راجع الآية 33 من سورة لقمان المارة وأن عمله صلّى اللّه عليه وسلم هو دأبه على نصحهم وإرشادهم ليس إلا {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ 39} غدا إذا لم تؤمنوا وتصدقوا {مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ} في الدنيا {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ 40} في الآخرة لا يتحول عنه أبدا أنا أم أنتم وقد ختم هذه الآية بالوعيد الشديد كما بدأها بالتهديد بما خبىء لهم من العذاب الأليم وهي قريبة في المعنى من الآيتين 54- 55 من سورة سبأ المارة وفيها ما فيها فراجعها.

.مطلب الروح والنفس ومعنى التوفي والفرق بينه وبين النوم وأن لكل واحد نفسين:

قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} الذي لا أحق منه {فَمَنِ اهْتَدى} به فانما يهتدى {لنفسه} إذ يعود فائدة هداه لها {وَمَنْ ضَلَّ} شرد عن طريق هداه {فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها} لأن وبال ضلاله عائد عليه {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ 41} لتجبرهم على الهدى وتحفظهم من الضلال، وإنما الفاعل لذلك هو {اللّه الذي يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} الأرواح راجع الآية 85 من سورة الإسراء في ج 1 تجد معنى النفس والروح وماهيتها وما يتعلق فيهما وهل هما شيء واحد أم لا بصورة مفصلة تكفيك عن كل مراجعة {حِينَ مَوْتِها} عند انقضاء آجالها {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} يتوفاها {فِي مَنامِها} لأن النوم موت خفيف، إذ يقطع اللّه تعالى تعلقها بالأبدان أي تعلق التصرف فيها عنها ظاهرا وقطع تعلقها بالأبدان بالموت عبارة عن قطع المتعلق بها ظاهرا وباطنا وإنما سمى كل منهما توفّيا لأنه بمعنى القبض فيهما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} الآية 60 من سورة الأنعام المارة، إذ لا تميزون ولا تتصرفون فانتم والموتى سواسية من هذه الحيثية، راجع تفسير هذه الآية أيضا لتعرف الفرق بين الموت والنوم المبين في قوله عز قوله {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} فلا يردها إلى أجسادها حتى يوم البعث {وَيُرْسِلُ الْأُخْرى} الناثمة التي لم يحن أجلها بعد فيبقها بالحياة متمتعة {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} عنده حتى انقضائه {إِنَّ فِي ذلِكَ} القبض والإرسال من قبل الملك الفعال {لَآياتٍ} عظيمات دالات على كمال قدرة الإله الواحد على البعث {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 42} بمعناها ويعقلون مغزاها.